الجاوي بعد عشرين وعام من الغياب.... الشاعر ذلك المنسي !!

المرصاد نت

قليلون هم الذين عرفوا ان النصوص الشعرية العديدة التي نشرت في مجلة الحكمة والثقافة الجديدة و14 اكتوبر واليمن الجديد في سبعينيات وثمانينيات القرن المنقضي وكانت توقع تحت أسم ALgaoai2018.12.23(ذو نواس) لم تكن سوى للمثقف الوطني (عمر عبد الله الجاوي 1938ـ 1997) لان المتحقق الكتابي والمتعين الواضح في مسيرة الرجل كانت تختزله ككاتب سياسي مختلف مشكِّلا في حضوره الصاخب امتداداً لافتاً لمدرسة الاحرار اليمنيين الذين زاوج منتسبوها بين انصرافاتهم الثقافية ـ كشعراء وكتاب ـ وهمومهم الوطنية (كمناضلين) ضد منظومة الحكم الثيوقراطي المنغلق في الشمال اليمني، و الحكم الاستعماري السافر في الجنوب اليمني . أما المتواري الحقيقي في هذه السيرة هو الشاعر الذي ازداد استتاراَ خلف المرموز الاشكالي في تاريخ اليمن القديم (يوسف ازار ـ احد الأدواء الحميريين / او ما يعرف تاريخيا بذي نواس الحميري).

لكن التكشف والابانة الكاملة لمنجز هذا الشاعر عند الكثير من القُراء، ستكون بعد رحيله بستة أعوام بصدور مجموعته الشعرية اليتيمة التي حملت عنوان (صمت الأصابع / منشورات اتحاد الادباء والكتاب اليمنيين عام 2003) والتي لم تُقرأ بعناية نقدية كافية بعد خمسة عشر عاماً من صدورها.

المجموعة في محصلتها استبصارات كتابة لموضوعات متجسمة وملتقطات لوقائع وحالات لم تسل في الكتابة السياسية عند صاحبها بل تقطرت جمالياً في نصوص شعرية بمستدركات ظرفية لا يمكن ان تحاكم بأدوات قراءة تتقدم بعض نصوصها بستة عقود.

فالنص الاول في المجموعة والذي حمل عنوان (خواطر عكفة) اُشير في تذييله الزمني انه كتب في العام 1955 وهو عام انتقاضه الثلايا وجنوده في تعز غير ان الصيغة النهائية للنص ستتم في أواخر الخمسينيات وتحديداً في العام1959 ـ وفق التذييل ذاته .

فالشاب الذي لم يتجاوز عمره السابعة عشرة لم يجد أمامه سوى أدوات الشاعر للتعبير عما يعتمل بداخله أزاء موضوع يشغل تفكير الكثيرين وهو علاقة العسكري بالفلاح ـ غير ان التعبير السياسي عنه بوضوح سيكون بعد أربعة أعوام حين سينتقل الطالب المبعد من القاهرة الى موسكو فيعيد صياغة النص المكتوب، بمقتربات انسانية واضحة، ستتعاكس مع النظرة الكلية عن العسكري البسيط الذي اقترن حضوره في حياة الفلاحين وقبل هذا في الذهنية الشعبية بوصفه الانموذج المكتمل و الواضح للحظة الاعتساف لنظام الحكم الامامي .

وحين تأخذنا المقارنة الى نص آخر ـ سردي ـ انجزه الراحل محمد عبد الولي في ذات الفترة تقريباً بعنوان "ياخبير" وتضمنته مجموعته القصصية الاولى (الأرض يا سلمى) الصادرة ببيروت مطلع ستينيات القرن الماضي سنجد ثمة مؤثرات ومشغلات سياسية وجمالية جعلت من رفيقين وصدقين تلازما في (القاهرة وعدن وموسكو) ينتجان نصين ابداعيين متقاربين زمنياً يحفران بعيداً في العمق الانساني لكائن قادته الظروف ليكون عسكرياً مذموماً لان انساناً مثل هذا سيغدو هو الاخر ضحية للمجتمع والنظام السياسي.

المشغلات الكتابية في مجموعة (صمت الأصابع) التي غطت نصوصها ثلاثة عقود وقليل حسب التثبيتات الزمنية لها توزعت على ثلاث موضوعات رئيسية هي الوطني والعاطفي والجمالي ـ ان صح توصيف مثل هذا للأخير ـ واختزل الموضوع الوطني حضور الشاعر وانغماسه بعمق اللحظة السياسية الضاجة، وخصوصاً ارهاصات الثورة اليمنية وتحولاتها اللاحقة، التي افضت الى الوحدة ،التي كان الشاعر احد الاصوات العالية المنادية بها. وعلى قلة النصوص ذات البعد العاطفي الصريح في المجموعة الا انها مثلت أستحضارا لافتاً لامرأة تدعى (ليدا نيكولايفنا) التي تحضر في ثلاثة نصوص..

الاشتغال على الموضوع الفني في مجموعة (صمت الاصابع) سيعبر عن تلك الخبرات الكتابية لقلم لم يبتعد عن عوالم الصحافة والادب بالتعايش او المزاولة لقرابة أربعين عاماً فكان الشعري المتخفف من حمولة السياسي اشبه بشرفة واسعة ابصر منها الشاعر مالم يستطع السياسي الضاج والمباشر ان يراه من كوات ضيقة ظنها ملكاً للجميع.

السياسي والشاعر والمثقف صفات يختزلها بدون اقسارات أو فذلكات (عمر الجاوي) الذي يتيح للمتتبع لتجربته في الكتابة اسقاط ما شاء عليه من خلال هذا التنويع في التأليف والترجمة والانجاز الفني . فاذا كان التأليف سيُختزل في كتبه (الزبيري شاعر الوطنية والصحافة النقابية في عدن وافتتاحيات الحكمة وربورتاج حصار صنعاء ) والترجمة سيشير اليها كتابه عن الروسية (السياسة البريطانية في جنوب اليمن) فان الانجاز الفني سيتيحه ديوان (صمت الأصابع) كون نصوصه الباكرة تحيلنا الى موضوع اشكالي يتعلق بموضوع الريادة الشعرية للقصيدة الجديدة في اليمن . فقبل العام 1955 لم اتحقق شخصياً (من خلال القراءة والمتابعة) من نصوص شعرية كتبت متحررة من اوزان الخليل في الشعرية اليمنية المعاصرة قبل هذا التاريخ الا تلك التي انجزها الشاعر الفذ محمد انعم غالب التي ستؤلف بعضها مجموعته الرائدة (غريب على الطريق) التي سيصدرها مطلع سبعينيات القرن الماضي، وربما قصيدة "عودة بلقيس" لإبراهيم صادق التي نشرت في ذات الفترة تقريبا وكل ذلك بعيدا عن مجموعة "ولائد الساحل" لحسين بن عبيد الله السقاف التي يُشار ايها كبوابة ريادة لأسباب فنية تتصل بالتمييز بين المرسل والحُر ..

انحياز الجاوي للكتابة بطريقة شعر التفاعيل المتحرر (قصيدة التفعيلة او الشعر الحر كما درجت العادة على تسميته) جاءت للتعبير عن الاستجابة للتحولات التي شهدتها بنية الشعر العربي في المراكز الثقافية الفاعلة ( بيروت ودمشق وبغداد والقاهرة) بفعل التحولات الجديدة في المنطقة ،التي بشرت بولادة الدولة الوطنية منذ مطلع الخمسينيات وتحيل بدرجة رئيسية الى تلك التفاعلات الايجابية للشاعر مع محيطه الثقافي، الذي ابرز الى السطح شعراء الريادة (مثل السياب والبياتي وعبد الصبور ونازك وبعدهما الماغوط وادونيس وانسي الحاج... الى اخر القائمة) .
الجاوي لم يكن جامداً بل ديناميكياً وظف كل ملكاته الابداعية للتعبير عن الانسان الجديد وكان الشعر احداها.
 في 27 ديسمبر 1997 توفي الاستاذ عمر عبدالله الجاوي عن ستين عام .

كتب : محمد عبد الوهاب الشيباني

المزيد في هذا القسم: