المرصاد نت - متابعات
بشيء من الدهشة وزوغان العينيين تلقّى الشارع العربي من مُحطيه إلى خليجه أخبار استقبال القادة الإسرائيليين من رئيس الحكومة إلى وزرائه وعزف النشيد الإسرائيلي والتفاعُل الرياضي مع اللاعبين الإسرائيليين في عواصم عربية عدّة.
هكذا، من دون مُقدّمات سياسية يندفع الرسميّ العربيّ نحو التطبيع وكأنه اكتشف كنزاً مخبوءاً تحت بيته المُتهالك، فتقافز كالطّفل الفرح بلعبته الجديدة.
لا نحتاج إلى سرد حِجَجٍ لإقناع الشارع العربي بخطورة التطبيع على ثقافة المجتمع وقِيَمه الإنسانية، فالشارع سبق نخبه في رفض التطبيع حين فُرِض عليه قسراً منذ اتفاقية كامب ديفيد وما تلاها من محطات. الشارعان المصري والأردني تُرفَع لهما القبّعة احتراماً لثباتهما في رفض التطبيع. بل ما نحتاجه هو قراءة مُعمّقة وتحليل لسلوكيات بعض القادة المُهرولين للتطبيع كهرولة الرُضّع لأثداء أمّهاتهم.
التطبيع –أيّ بناء علاقات طبيعية- مع عدوٍّ يقتل ويقضم ويتآمر يومياً على حقوقنا، هو مرض يحتاج إلى تشخيص وعِلاج. وكحال الأمراض الكثيرة التي تعتري الأبدان، هناك أمراض تتلبّس بالنفوس. قد تكون نادرة الحدوث، وقد تكون سريعة الانتشار. وقد تأتي في أوقاتٍ أو ظروفٍ أو مواسم مُحدَّدة. الأنفلونزا مثلاً مرض موسمي قد ينتشر ويتوسّع بالعدوى حتى يتحوَّل إلى وباء. بعض الأمراض النفسية والاجتماعية قد تظهر في مواسِم سياسية أو ظروف اقتصادية واجتماعية مُحدَّدة. وقد تنتشر وتتوسَّع بالعدوى أيضاً عن طريق التقليد والاستحسان. وقد تتحوّل إلى "وباء" يُسمَّى عادة في العلوم الاجتماعية "الظاهِرة الاجتماعية".
في هذا المقال سنتحدّث عن مرضٍ "نفسي-اجتماعي" واحد هو مرض "الإنكار السياسيّ" الذي ينتشر كالعدوى في نادي الحُكّام العرب. ولا أدلّ على حال "الإنكار السياسيّ" من اللجوء إلى التطبيع مع الاحتلال في تحدٍّ واضحٍ لرغبات الشعوب وتجاهُل صارِخ لكلّ الموروث الثقافيّ والاجتماعيّ والتاريخيّ تجاه الاحتلال الإسرائيلي وكيانه السرطانيّ.
والإنكار ببساطة هو رفض الإقرار بالواقع، أو التعامُل مع الواقع وكأنه لم يحدث البتّة.
والإنكار في العلوم النفسية هو آلية بدائية تبدأ بالتشكّل في المراحل الأولى للطفولة. ولهذا يعتبر استعماله دليلاً على عدم النُضج لأنه يُعيق القدرة على التعامُل مع الواقع، ويحول دون التعلّم. في حين يرى فيه آخرون وسيلة للهروب من المسؤولية ومن الإحساس بالذَنب.
والإنكار حيلة مؤقّتة يلجأ إليها الفرد بشكلٍ لا واعٍ في غالب الأحيان لحماية ذاته من الأخطار، ومن ضغط الأحداث المُهدّدة، حيث يمنحه الإنكار المؤقّت مساحة من الوقت للتكيّف مع المشكلة قبل التهيّؤ للتعامل معها. وإذا ما تحوّل الإنكار إلى حالٍ دائمةٍ أصبح مرضاً مُستعصياً قد يدخل صاحبه في دائرة فقدان التوازن والإيغال في التحدّي. وقد يؤثّر على عِلاجه أو على قدرته على مواجهة التحديات.
وعندما يكون المرء في حال إنكار، فإنه يتجنّب الاعتراف بالحقائق. كما يتجنّب مواجهتها، ويتهاون بالآثار المُترتّبة عليها.
ومن خلال الاندفاع نحو التطبيع مع عدو لم ينه احتلاله ولم يتراجع عن جُرمه يكون الحاكِم العربي قد كرَّس أعرافاً سياسية واجتماعية غريبة عن بنية المجتمع، وخلق عدداً من الوقائع الجديدة التي تجعل المجتمعات أو الشعوب في حالٍ من التشكّك بثوابتها وقِيَمها التاريخية وخياراتها السياسية والاجتماعية. حيث يستبطن خيار التطبيع في هذه الحال، الاعتراف الضمنيّ بفشل خيار المواجهة والمُقاطعة مع الاحتلال، والقبول بالهزيمة النفسية أمامه، مع ما يستتبع ذلك من رغبة في تقليده واستحسان سلوكه كونه المُنتصِر على قاعدة إبن خلدون "المغلوب مولَع دوماَ بتقليد الغالِب".
حال الإنكار السياسيّ عند الحاكِم العربي لخيارات شعبه وتجاهله أو لامُبالاته لخطورة غضب الشارع عليه، تدفعه للارتماء بحضن عدوّه، متوهّماً أن ذلك قد يُشكّل مظلّة حامية له من انتقام شعبه فيما لو ثار عليه يوماً.
وإزاء خيار التطبيع ومباركته على قاعدة "إسرائيل أمر واقع، ولا بدّ من التعامُل معه كجارٍ قائم" يحملنا على طرح تساؤلات مقابل السؤال المطروح نفسه:
- هل الاستفاقة المُتأخّرة لمنطق وجود إسرائيل وضرورة الواقعية السياسية في التعامُل معها قد ينسحب على إيران نفسها، وبالتالي يصبح من المنطق العودة إلى التعايُش والتحاور والتفاهم معها كونها أيضاً "أمر واقع"؟ أليست إيران أولى بالحوار معها من إسرائيل –عند مَن يرون فيها عدواً للعالم العربي- طالما أن إيران لم تتجاوز إسرائيل في قلع شعب بكامله من أرضه والهيمنة على المُقدّسات الإسلامية، كما تفعل تل أبيب بالمسجد الأقصى؟
- أليس من الواقعيّة السياسيّة وثقافة التسامُح مع العدو أن تقبل الدول المُطبّعة مع الاحتلال المعارضين السياسيين وحركات الإخوان المسلمين وحركة حماس وحزب الله المُصنّفين "منظمّات إرهابية" عندها وفق منطق "التصالح مع العدو الداخلي أجدى في بناء اللّحمة الداخلية من التصالح مع العدو الخارجي"؟
- هل يتضمّن خيار التطبيع عند النُخَب السلطويّة المُتحمّسة له ضرورة إعادة النظر بكل المُقرّرات التربوية والأدبيات السياسية تجاه الاحتلال، والاعتراف بأن محاربة إسرائيل منذ الأساس كانت خاطِئة وظالِمة؟
- ألا يرُسِل خيار التطبيع إشارة إلى إسرائيل أنها مُحقّة في كلّ ما تفعله في فلسطين وهو عين الصواب من المنظور السياسي وأن استمرارها في اضطهاد الشعب الفلسطيني لن يُثني العرب عن اللحاق بها طلباً للودّ؟
هذه أسئلة بريئة برسم العقل العربيّ الرسميّ ونُخَبه المُطبّلة ولا نظنّ الشعوب العربية بحاجة إلى أجوبة فهي تعرف سلفاً ما تؤمن به.
محمد علوش - معد ومقدم برامج سياسية في قناة الميادين.
المزيد في هذا القسم:
- دخول مسلحين مدربين من الأردن لتسخين جبهة الجنوب السوري المرصاد نت - متابعات أستهدف الجيش العربي السوري وحلفاؤه مواقع الجماعات المسلحة في مدينة درعا وريفها جنوبي سوريا ما أدى إلى مقتل واصابة عدد من مسلحي جبهة النصر...
- حقوق الإنسان تنزف بعد 9 سنوات من ثورة البحرين! المرصاد نت - متابعات مرت 9 أعوام على ثورة البحرين في فبراير/شباط 2011م وشارك حينها عشرات الآلاف في تظاهرات شملت مدن وبلدات في جميع أنحاء البلاد للاحتجاج على ق...
- استراتيجية النظام السعودي.. تخبط داخلي وخلافات خارجية المرصاد نت - متابعات لم يكن أحد يتصور أن ينحدر النظام السعودي في سياسته الخارجية إلى هذا المستوى الواضح أن هناك تخبط داخل الأسرة الحاكمة يذكرنا بالمرحلة التي ...
- تعاون غير مسبوق للاحتلال ومصر والاردن والهدف حزب الله المرصاد نت - متابعات اعلن جيش الاحتلال ان هناك تعاونا غير مسبوق بين الكيان الإسرائيلي واجهزة الاستخبارات المصرية والاردنية معتبرا حزب الله لبنان بانه...
- مسئول روسي: فوز الأسد في الانتخابات ترك أثرًا إيجابيًا أشاد نائب رئيس الوزراء الروسي دميترى روجوزين بفوز بشار الأسد في انتخابات رئاسة الجمهورية السورية في يونيو الماضي.. معتبرا أن فوزه ساهم في تعزيز الأمن السوري. و...
- لائحة بأسماء الدول التي أصابها فيروس «كورونا»! المرصاد نت - متابعات لائحة بأسماء الدول التي أعلنت تسجيل إصابات بفيروس «كورونا» الغامض، الشبيه بفيروس «سارس»، وذلك منذ ظهوره في مدينة ووهان الصينية (وسط ــ شر...
- واشنطن تخنق تركيا بخصمها التاريخي.. هل بدأت مرحلة اللاعودة؟ المرصاد نت - متابعات مع استمرار تدهور العلاقات بين تركيا وشركائها في حلف الناتو ولا سيما العلاقات المتوترة بين أنقرة وواشنطن فإن الأخيرة بدأت تبحث عن بديل جدي...
- أين ستظهر مملكة “داعش” المقبلة؟ المرصاد نت - متابعات تزايدت المؤشرات على الأرض الدالة على أن الولايات المتحدة قد حزمت أمرها وبدأت تعد لمعركة شاملة مع “داعش” على جبهات الرقة و...
- هولاند يزور لبنان ويتعهد بتقديم مساعدات عسكرية فورية متابعات : تعهد الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند اليوم السبت بتقديم مساعدات عسكرية فورية للبنان بالإضافة إلى دعم مالي بقيمة 150 مليون يورو لمواجهة أزمة اللاجئي...
- تحذير أممي من كارثة انسانية ضد مسلمي الروهينغا المرصاد نت - متابعات قالت الأمم المتحدة إن نحو ستين ألفا من مسلمي الروهينغا فروا من أعمال العنف -التي تشهدها ميانمار- إلى بنغلاديش بينما قالت الحكومة اليوم ال...