المرصاد نت - متابعات
أيَّـهما نُصدِّق: ترامب الذي تَمنّى الأسبوعَ الماضي سحبَ قوّاتِه سريعًا من سوريا؟ أَم ترامب الذي هَدّدَ هذا الأسبوعَ بضربِ النظامِ السوريّ؟ أم هذا وذاك؟ فسَحبُ القوّاتِ قبلَ العاصفةِ لا يُلغي استخدامَ القوّةِ بشكلٍ مختلِف.
حين بدأ التدخُّلُ الأميركيُّ الجويُّ في سوريا سنةَ 2014 في إطارِ ما يسمى "التحالفِ الدوليِّ ضِدَّ الإرهاب" واستُكمِلَ إحاديًّـا بإرسالِ قـوّاتٍ خاصّةٍ بريّـةٍ بين سنتَي 2015 و 2017، وَضعَت واشنطن هدفًا واحدًا هو القضاءُ على "داعش". ما يَعني أنَّ رغبةَ ترامب بالانسحابِ من سوريا اليومَ مَنطقيٌّ ما دامَ يعتبر المهمَّةَ أُنجِزَت (هل فعلاً أُنجِزت؟).
لكنَّ ترامب الذي خَلَف أوباما سنةَ 2017 عزَّز هذا الوجودَ وأَعلن في 21 كانون الثاني 2018 بعد انتهاءِ المعاركِ الكبيرةِ ضِدَّ "داعش" أنَّ قوّاتِه باقيةٌ لمواكبةِ الحلِّ السياسيِّ للحربِ السوريّةِ في "مؤتمرِ جنيف". ما يَعني بالمقابل أنَّ قرارَه المفاجئَ بسحبِ قوّاتِه مُخالِفٌ لموقفِه الجديدِ.
وفي كلِّ الحالاتِ يُقدِّم الانسحابُ الأميركيُّ في حالِ تنفيذِه قريبًا خِدمةً ذهبيّةً لكلٍّ من النظامِ السوريِّ وإيران وروسيا، في حين يُصعِّد ترامب اللهجةَ ضِدَّ روسيا، ويَتّجهُ للانسحابِ من الاتفاقِ النوويِّ مع إيران في 12 أيار المقبل ويُهدِّدُ الأسدَ بدفعِ ثمنٍ باهظٍ، ويُضاعِفُ العقوباتِ على حزبِ الله.
الحقيقةُ أنَّ هذا القرارَ يُشبِهُ كلَّ القراراتِ الأميركيّةِ منذ غزو العراق سنةَ 2003 التي أدّت إلى تقويةِ إيران وانتشارِ نفوذِها السياسيِّ ووجودِها العسكريِّ في الشرقِ الأوسط، إلى إعادةِ النفوذِ الروسيِّ، وإلى إضعافِ حلفاءِ أميركا لاسيّما الخليجيّون منهم. أميركا تَزرعُ وإيرانُ تَـحصُد.
وإذا كانت وراءَ نيّةِ الانسحابِ مناورةٌ تُخفي الأعظَم الآتي فهناك مجموعةُ أسبابٍ تَـحمِل الرئيسَ الأميركيَّ على التفكيرِ بالانسحاب أبرزُها سِتّةٌ هي:
1) وفاءٌ لوعدٍ انتخابيٍّ بعدمِ توريطِ أميركا عسكريًّا في نزاعات خارجيّةٍ.
2) محاولةُ تفادي هزيمةٍ مرجَّحةٍ في الانتخاباتِ الأميركيّةِ النِصفيّةِ في 06 تشرين الثاني المقبل.
3) ابتزازُ دولِ الخليجِ ( الفارسي ) لتُموِّلَ الوجودَ العسكريَّ الأميركيَّ في سوريا، فالإعلانُ عن نيّةِ الانسحابِ صَدَر غداةَ مغادرةِ وليِّ العهدِ السعوديِّ واشنطن وعشيّةَ وصولِ أميرِ قطر ووليِّ عهدِ الإماراتِ العربيّةِ إليها.
4) تَسليمٌ أميركيٌّ/إسرائيليٌّ ببقاءِ نظام بشّار الأسد.
5) استباقُ ردود افعال تهدِّدُ بها إيرانُ في حالِ انسحبَت واشنطن من الاتفاقِ النوويِّ وشَدّدت عقوباتِها عليها بُغيةَ تغييرِ النظام الإيراني.
6) تمهيدٌ لحربٍ إسرائيليّةٍ ـــ أميركيّةٍ ضِدَّ إيران وحزبِ الله، فلا تُستفرَدُ القوّاتُ الأميركيّةُ ـــ في هذه الحال ـــ في شمالي سوريا وتُصبحُ رهينةً إيرانيّة.
سواءٌ أكان الانسحابُ من سوريا جِدّيًا أم مناورةً، فقد َكشفَ أنَّ الرئيسَ ترامب يَعتبر وجودَ قوّاتِه هناك غيرَ استراتيجيٍّ بينما تَعتبرُ روسيا وطهران وجودَ قوّاتِـهما في سوريا استراتيجيًّا. والحالُ أنَّ واشنطن تعايَشت منذ ستّيناتِ القرنِ الماضي مع الدورِ العسكريِّ الروسيِّ في سوريا واكتفَت بالأدوارِ السياسيّةِ والديبلوماسيّةِ والاقتصاديّة.
وتَبيّنَ اليومَ أنَّ إرسالَ القوّاتِ الأميركيّةِ إلى سوريا لم يكن جُزءًا من استراتيجيّةٍ أميركيّة جديدة تجاه سوريا والشرق الأوسط، بل تتمّةٌ للحربِ على الإرهاب. وأصلاً، لا توجدُ مع ترامب استراتيجيّةٌ قديمةٌ أو جديدةٌ، إنما سياسةٌ ماديّةٌ، ظرفيّةٌ ومرحليّةٌ، يُـمليها المزاجُ أو الابتزازُ أو التهويلُ أو الاسترضاء، ومَبنيّةٌ على الصَدمِ السياسيِّ والشراهةِ الماليّةِ والشعورِ بالعظمَة. مع هذا الرجلِ كلُّ شيءٍ مُمكن.
منذ أن انتُخِبَ ترامب رئيسًا، وهو يَفتقِرُ إلى الهدوءِ العقليِّ والثَباتِ الإداريِّ والاستقرارِ السياسيّ. يَتقلَّبُ في مواقفِه حيالَ قضايا يَتوقّفُ عليها مصيرُ الأمنِ والسلامِ والإنسانِ في العالم. يُقارِبُ الـمَلفّاتِ النوويّةَ وكأنّها ألعابٌ ناريّة. يُعلِنُ الحربَ ولا يُقاتِل، ثم يَعرِضُ التفاوُضَ ولا يحاوِر. يَهوى خلقَ حالاتٍ إشكاليّةٍ مثيرةٍ لاستخدامِها شعبويًّا في المدنِ والأريافِ الأميركيّةِ. إنّـه رئيسُ داخليّةِ أميركا وليس رئيسَ الولاياتِ المتّحدةِ الأميركيّة.
أمرٌ خطيرٌ أنْ يُناقِضَ ترامب نفسَه وأسلافَه وإدارتَه وحلفاءَه (باستثناء إسرائيل). فغالِبيّةُ القراراتِ التي اتّخذَها جاءت خِلافَ رأيِ عقلاءِ الإدارةِ الأميركيّةِ: مِن نقلِ سفارةِ أميركا إلى القدس إلى معالجةِ الأزمةِ مع كوريا الشَماليّة، مِن نَقضِ الاتفاقِ النوويِّ مع إيران إلى التوتّر المتعمَّدِ مع روسيا، من تعكيرِ العَلاقاتِ مع حلفِ شمالِ الأطلسيّ إلى الانسحابِ من معاهَدةِ باريس للمُناخ، وصولاً إلى الرغبةِ في الانسحابِ من سوريا.
مأساةُ أميركا بل مأساةُ العالم أنَّ الرئيسَ ترامب يُـغيّر وزراءَه ومستشاريه الـمُحِقِّين عِوضَ أنْ يُغيّرَ قراراتِه الخاطِئةَ. في الاجتماعِ الذي خُصِّص لسوريا في 3 الجاري، أبلغ القادةُ العسكريّون ترامب أنهم كانوا يَنتظرون منه قرارًا بزيادةِ عددِ القوّاتِ لا بسحبِ القوّاتِ الموجودَة، إذ هم يُـحضِّرون لبناءِ قاعدتين عسكريّتين جديدتين شمالَ سوريا.
وذكّروه بأنّه وافقَ مَطلَعَ السنةِ الجاريةِ على أنَّ الانسحابَ من سوريا يَـتِمُّ بعد تأمينِ الظروفِ التالية: بلوغُ الحلِّ السياسيِّ في جنيف مراحلَه النهائيّةِ، تقليصُ الوجودِ العسكريِّ الإيرانيِّ ومُلحقاتِه التأكّدُ مِن عدمِ قُدرةِ القِوى الإرهابيّةِ على إعادةِ تنظيمِ نفسِها، تأمينُ وضعٍ خاصٍّ للأكراد ضمانُ الحدودِ الإسرائيليّةِ، ضبطُ الحدودِ العراقيّةِ / السوريّة، استتبابُ الأمنِ والاستقرارِ العامّ بَدءُ عودةِ النازحين السوريين، وحِفظُ حِصّةِ الشركاتِ الأميركيّةِ في إعادةِ بناءِ سوريا.
تَهيَّبَ ترامب معارضةَ كلِّ مراكزِ صناعةِ القرارِ الأميركيِّ وأَرجأ قرارَ الانسحابِ إلى أجلٍ قريبٍ غيرِ مُحدَّدٍ. لقد أفادَت الولاياتُ المتّحدةُ النظامَ السوري بدخولِـها وبانسحابِـها: بدخولِـها ساهمَت في دَحرِ "داعش" التي كانت تَحتلُّ أكثرَ مِن نِصفِ سوريا ( بحسب راي الكاتب ). وبانسحابِها الموعودِ تتركُ المساحاتِ المحرَّرةَ ليستعيدَها النظامُ السوريُّ تدريجًا.
في حالِ تَحقّقَ هذا الأمرُ تلتقي المصالحُ الأميركيّة والإسرائيليّةُ مع المصالحِ الروسيّةِ والإيرانيّة حيالَ المحافظةِ على نظامِ بشار الأسد تحديدًا نظرًا لما يُـمثِّله من طاقةٍ مزدوجِةٍ يُمكِن من خلالِـها إعادةُ توحيدِ سوريا (الجيش) أو إعادةُ رسمِ كيانِها (العلويّون) في إطارِ الشرقِ الأوسطِ الجديد القديم.
سجعان قزي
المزيد في هذا القسم:
- العلاقة الأميركية ــ الخليجية: استراتيجية الاحتماء والابتزاز ! المرصاد نت - متابعات «يا معشر قريش أطيعوني واجعلوها بي، خلّوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه... فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم وإن يظهر على العرب فملكه...
- رغم "سعودة" الوظائف.. البطالة بين السعوديين في ازدياد المرصاد نت - متابعات واصل معدل البطالة في السعودية ارتفاعه رغم خروج ما يقرب من ربع مليون عامل أجنبي من المملكة في الربع الأول من العام الجاري 2018 وتوسع الحكو...
- حرب تموز 2006 م … انقلاب موازين القوى ! المرصاد نت - محمد منصور بعد ثلاثة عشر عاماً من انتهاء حرب تموز/يوليو 2006م لا يخفى على كل متابع للشأن الإقليمي في الشرق الأوسط انعكاس صمود وانتصار المقاومة الل...
- بعد ميناء الفجيرة .. اشتعال نفط أرامكو يربك الحسابات ! المرصاد نت - متابعات بمعزل عن تعدد التأويلات حول الجهة التي تقف وراء تفجيرات ميناء الفجيرة إلا أن خلاصة ما حدث عبر استهداف منشآت أرامو وقبلها ميناء الفجيرة تث...
- أمريكا: انتكاسة أولى قبل معركة الرئاسة.. ترامب يخسر ولايتين! المرصاد نت - متابعات واجه الرئيس الأميركي دونالد ترامب والحزب الجمهوري هزيمة موجعة في انتخابات منتظرة جداً جرت في ولايتين حيث أشارت التوقعات إلى فوز الديموقرا...
- النظام السعودي يسعي للحصول على أسلحة نووية المرصاد نت - متابعات تناقلت وسائل الإعلام الإقليمية والدولية في الآونة الأخيرة أخباراً وتقارير مفادها بأن النظام السعودي يسعى إلى امتلاك الأسلحة النووية لمواج...
- أبرز التطورات السياسية والميدانية في المشهد السوري المرصاد نت - متابعات بينما رفع الرئيس التركي من سقف تدخّله الأخير في عفرين عبر التهديد بغزو الشمال السوري كلّه حتى الحدود العراقية انتهت جولة محادثات «ف...
- يتباكون على مأساة اللاجئين في قمة نيويورك؟ فمن خلق هذه المأساة؟ أليست تدخلاتهم العسكرية؟ المرصاد نت - رآي اليوم عقدت الأمم المتحدة يوم أمس الاثنين “قمة اللاجئين” على هامش اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك حيث توالت الخطابات...
- تقرير غربي حول تجارة الأسلحة وتضاعف واردات السعودية والإمارات وقطر من الأسلحة المرصاد نت - متابعات كشفت صحيفة الغارديان البريطانية اليوم أن دولا في الشرق الأوسط على رأسها السعودية والإمارات وقطر ضاعفت وارداتها من الأسلحة والمعدات ال...
- فلسطين في مواجهة الأصيل "الأمريكي" والوكيل "العربي" ؟ المرصاد نت - متابعات أغلق خلفه الباب عائداً إلى أرضه التي لا يقبل بأن يساومه أحد عليها كما لا يقبل تجاهل قضية بلاده التي دفع عليها هو ورفاقه وأبناء بلده دماء ...